اسد البراري المدير العام
رقم العضوية : 1 عدد المساهمات : 466 نقاط : 1134 تاريخ التسجيل : 13/10/2010 العمر : 63 الموقع : https://sanabel.ahlamontada.net
| موضوع: من روائع البيان في نظم القرآن الخميس أكتوبر 21, 2010 7:53 am | |
| من روائع البيان في نظم القرآن
إعداد الأستاذ هشام طلبة*
تختلف سور القرآن عن كتب التوراة الحالية في أنها لم ترتبمثلها ترتيبًا تاريخيًّا، تبدأ بقصة خلق الكون ثم خلق الإنسان ثم قصصأبناء آدم ثم الأنبياء وهكذا.. على العكس من ذلك ترتب سور القرآن ترتيبًاموضوعيًّا، فالقرآن ليس كتاب تاريخ، فكل سورة إذاً لها موضوعها.
* الترتيب الموضوعي للسور ووحدة السورة القرآنية:
فسورة الفاتحة هي دعاء المسلم الأعظم، وسورة البقرة موضوعها الإيمانوالتقوى وأركانها، وسورة آل عمران تكمل موضوع السورة الأخيرة من تضمنقواعد الدين، كذلك تاليتها النساء ( فيما يختص بالنساء ) تعقبها مكملة لهاأيضًا سورة المائدة ( فيما يختص بالأطعمة والذبائح )، وسورة الأنعام سورةالجدل مع المشركين، وسورة الأعراف فيها قصة الإنسان منذ خلقه فنزوله الأرضفتعرضه للأنبياء، ثم موته ثم تعرضه لأحداث يوم القيامة، وهكذا، وسورةالنحل هي سورة النعمة، وحين تقصر سور القرآن يظل لها موضوع وإن كان صغيرًافيكون أقرب إلى السمة فمريم سورة الرحمة، والأحزاب هي سورة النبي صلى اللهعليه وسلم، وسورة الصافات هي سورة الملائكة، وسورة ص هي سورة الإنابة،وسورة الزمر هي سورة إخلاص العبادة، وسورة غافر هي سورة الدعاء، وفصلت هيسورة القرآن، والشورى هي سورة الوحي والعنكبوت هي سورة الصبر على البلاء،وهكذا..
* تلخيص السورة القرآنية في بعضها:
ومن جميل ما يذكر هنا أن تجد موضوع السورة القرآنية ( خاصةً الطويلة )ملخصًا في آية أو بضع آيات من آياتها – خاصة في بداياتها أو في أواخرها –فسورة الأنعام تجدها ملخصةً في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّالْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاأَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام: 162، 163 ]. إذ أن موضوعها الأصلي هو جدال المشركين، وهي أكثر سورة ذكرت فيها كلمة{ قُلْ }وقد اهتمت بأحكام الذبائح (النسك )، كما نجد سورة يوسف ملخصة في قوله تعالى: { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ يوسف: 21 ]. إذ خطط إخوة يوسف له خطة للخلاص منه فيجعل الله منها سبب خيرٍ له كما جاء في أواخرها قوله تعالى: { حَتَّىإِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْنَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِالْمُجْرِمِينَ } [ يوسف: 110 ]. كذلك نجد سورة الصافات ملخصةً في آخر ما ذكر منها: { سُبْحَانَرَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَىالْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الصافات: 180 – 182 ] , سورة النحل: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [ النحل: 18 ]..
* الاتجاه المعنوي للسورة القرآنية
في هذا المجال أيضًا لا يفوتنا الإشارة إلى الاتجاه المعنوي للسورةالقرآنية، فسورة الطلاق مثلًا تشعر وكأن السورة قد دخلت في قلب مشاعرالمطلق، وسورة النور تجد لها اتجاهًا معنويًّا هادئًا سلسًا (خاصةً آياتالنور ) تخالف مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم الحزينة على حادث الإفك. أما عرض مشاهد القيامة والدار الآخرة فكأنك ترى رأي العين، حسبنا هنا سورة الأعراف، خاصة في قوله تعالى: { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } [الآية: 47 ] ترى كأنما جاءت قوة خارجية لدفع أصحاب الأعراف إلى النظر إلى أصحاب النار بينما كان نظرهم لأهل الجنة باختيارهم.
* عرض موضوع السورة في بدايتها ونهايتها
من شيم سور القرآن الكريم في موضوعها – خاصةً بعد مقدمة إيمانية إن كانتالسورة طويلة – أن تبدأ في عرض الموضوع ثم تبتعد قليلًا بالخوض فيالمواضيع الإيمانية الأخرى وقبل نهاية السورة تعود لموضوعها مرة أخرى.
* الترتيب المعجز للسور
ترتيب السور خلف بعضها البعض ترتيبٌ معجزٌ، فالسور لم ترتب حسب تاريخ نزولكلٍّ منها، بل هذا ترتيب توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نزلت كلفقرة في مناسبة فيما عُرف بأسباب النزول، ويعجب المتدبر حين يجد كل سورةترتبط بسابقتها خاصةً في أوائلها، وترتبط كذلك بلاحقتها خاصةً في أواخرهاكحلق السلسلة الواحدة. قد نجد هذه الرابطة مباشرة وواضحة خاصةً في السور القصيرة نسبيًّا وقصار السور، كقوله تعالى في سورة الطور: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } [ الطور: 49 ]، ثم قوله تعالى في أول سورة النجم التي تأتي في الترتيب بعدها مباشرةً: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } [ النجم: 1 ]، فذكر النجم بعد النجوم مناسب تماما. وكذكره تعالى في سورة الفيل: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } [ الفيل: 1 ]، ثم أول لاحقتها سورة قريش: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } [ قريش: 1 ]، أي أنه تعالى فعل ما فعل بأصحاب الفيل ما فعل إلا لإيلاف قريش، فاللام هنا لام العلة. وقد نجد الرابطة بين السور رابطة موضوعية، خاصةً في السور الطويلة، مثلأواخر الزمر وأوائل لاحقتها غافر في ذكر حملة العرش وأحوال الآخرة، وقدنجد هذه الرابطة في سمات المعاني، مثل أواخر سورة هود: { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...} [ هود: 120 ]، وأوائل لاحقتها يوسف: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ... }[ يوسف: 3 ]، فالقصص المذكورة في آية سورة يوسف هي أنباء الرسل المذكورةفي آية سورة هود وكذكر الغفلة في آخر هود ثم في أوائل يوسف ( الآية 3).وكابتداء بعض السور بالحمد بعد نهاية سابقتها بذكر فصل القضاء ( أحداثالآخرة ) كعادة القرآن في ذكر الحمد بعد فصل القضاء، مثل الأنعام بعدالمائدة، ومثل فاطر بعد سبأ.
كما نجد سمات هذه الرابطة في سمات الألفاظ:
- مثل قوله تعالى في آخر الفاتحة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.. } [ الفاتحة: 6، 7 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها البقرة: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة: 1، 2 ]. فالهدى هنا معنى مشترك، كأن القرآن يقول لمن يقرأه: إذا أردت الهدى{ اهْدِنَا } فاذهب إلى سورة البقرة: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وما بعدها. - مثل قوله تعالى في آخر الحجر: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر: 99 ].ثم قوله في أول لاحقتها النحل:{ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل: 1 ]. - مثل قوله تعالى في آخر النحل: { وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل: 127، 128 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الإسراء: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..} [ الإسراء: 1 ]. حيث إن علاج ضيق الصدر دائمًا يكون التسبيح، كما في قوله تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ....} [ الحجر: 97، 98 ]. - مثل قوله تعالى في آخر الإسراء: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا..} [ الإسراء: 111]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الكهف: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ.. } [ الكهف: 1 ]، ثم قوله تعالى: { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا }[ الكهف: 4 ]. كأنما الحمد الثاني - في الكهف - استجابة للأمر الأولبالحمد - في الإسراء - ثم نقد فكرة اتخاذ الله للولد في الحالتين (الإسراء والكهف ). - ومثل قوله تعالى في آخر طه: { قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا...} [ طه: 35 ].، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الأنبياء: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... } [ الأنبياء: 1 ]، فالتربص يقتضي الاقتراب. وكذكر ألفاظ الإنذار في أواخر فاطر ثم أوائل يس. - ومثل قوله تعالى في آخر ص: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [ص: 87 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الزمر: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر: 1 ]. فالكلام في الحالتين عن القرآن الكريم. - ومثل قوله تعالى في آخر القمر: { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [ القمر: 55 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الرحمن: { الرَّحْمَنُ } [ الرحمن: 1 ]. فالرحمن هو هذا المليك المقتدر. ـ ومثل قوله تعالى في آخر الواقعة: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة: 96 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الحديد: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحديد: 1 ]. فكأن القرآن يقول: إن لم تسبح أيها الإنسان الضعيف فقد سبح من قبلك ما في السماوات والأرض. - ومثل قوله تعالى في آخر البينة: { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا }[البينة: 8 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الزلزلة: { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة: 1 ]. فكأن مقتضى الكلام: جزاؤهم العظيم هذا ستبدأ إرهاصاته إذا بدأت أحداث القيامة وزلزلت الأرض زلزالها. - ومثل قوله تعالى في آخر الماعون: { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ الماعون: 7 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الكوثر: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر: 1 ]. فذكر العطاء مناسب جدًّا بعد ذكر المنع. كذلك نجد السور المتشابهة في الافتتاحيات ترتب خلف بعضها البعض مثل الحواميم – وهي السور التي تبدأ بقوله: { حم }– وهكذا..(1). * وإنه لعجيب بعد كل هذا الإعجاز البياني في القرآن في الترتيب أن يقولقائل ( كينيث وود وارد ) في مجلة نيوزويك العدد 87 بتاريخ 12 / 2 / 2002:إن قراءة القرآن كالدخول في جدول ماء، ففي كل آية تقريبًا يمكن للمرء أنيطالعه أمر إلهي، فورة تعبد وصلاة، أو بيان إلهي، أو وصف ليوم القيامة. أي أنه يقصد أنه ليس هناك أي تناسق بين القرآن الكريم بعضه البعض، والحقأن مبعث اللبس عند هذا الصحفي أن كتابه المقدس عنده قد رُتِّبَ ترتيبًاتاريخيًّا منذ بدء خلق الأرض ثم النبات ثم الشمس !! – كما يقول سفرالتكوين في التوراة – ثم آدم ثم أبنائه على الترتيب. فهو إذًا كتاب تاريخ – والحق أن هذا أيضًا لم يكن دقيقًا ولا علميًّا، فإنأول إنسان على الأرض قطعًا أبعد بكثير من خمسة آلاف عام كما تقول التوراة-.
* إعجاز المناسبة في القرآن الكريم:
فالقرآن بالدرجة الأولى كتاب هداية..، وقد رُتِّبَ ترتيبًا موضوعيًّا كماأسلفنا مثل لآلئ العقد الواحد.. سورة بعد سورة، وآية بعد آية، بل ولفظ بعدلفظ. وهذا علم قديم منذ أبي بكر النيسابوري وابن العربي الذي قال: ارتباط آيالقرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة، وكذلك الفخر الرازي والسيوطيوالبقاعي الذي أفرد لذلك تفسيرًا كاملًا ( نثر الدرر في تناسب الآياتوالسور ) وممن خاضوا في هذا العلم (علم المناسبة ) حديثًا: أبو الأعلىالمودودي، وسعيد حوى في تفسيره الأساس حيث يرى مثلًا أن السور السبعاللاحقة بسورة البقرة مفصلة للآيات الأولى فيها، ومنهم كذلك سيد قطب الذيتكلم عن التناسق الفني في القرآن ومنه التسلسل المعنوي بين الأغراض فيسياق الآيات والتناسب في الانتقال بين غرض إلى غرض (2).
* و من إعجاز المناسبة ذكر لفظ معين في سورة معينة بمعدل أعلى من بقية السور:
كذكر لفظ الجلالة في سورة المجادلة بمعدل أعلى من بقية السور القرآنية،والذي نراه أن السبب هو أن موضوع السورة هو النجوى – ذكرت فيها بمشتقاتهاست عشرة مرة – و النجوى هي الكلام في السر والسر لا يكون على الله عز وجللأنه تعالى متواجد معنا، فكما تقول آية كريمة في ذات السورة: {.. مَايَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍإِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّاهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوايَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} والسورة القرآنية مع أنها ذات موضوع محدد غالب لكنها لا توجد كالمقالة فيجريدة في ذات الموضوع من أولها إلى آخرها، لكنها باستخدام التسلسلالمعنوي، إذ ينتقل الذهن من الشيء إلى ما يشبهه وإلى ما يقابله، وبهذايتمكن القول ومعناه من النفس(3) فحتى لا يمل المستمع تبدأ السورة القرآنية– الطويلة خاصةً – بمقدمة عن القرآن نفسه أو عظمة المولى عز وجل ثم تمهدلموضوع السورة الذي تخوض فيه بعد ذلك ثم بلطفٍ شديد في مواضيع مشابهة أومقابلة ثم يعود رويدًا إلى موضوع السورة الذي يختم به أو يختم كما بدأويمهد خلال تلك الخاتمة للسورة اللاحقة. ومن العجيب أن نجد هذه العظمة في ترتيب الآيات والسور مع أن القرآن لميرتب حسب تاريخ نزول كل آية أو سورة وعلى مدى نيف وعشرين سنة نزل فيها، إذكان النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول كل آية يأمر الصحابة أن يضعوا كلفقرة في موضع يحدده بنفسه صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا.
* الإعجاز في الاختصار وعدم التكرار والحذف والمجاز:
كذلك نجد من خصائص الإعجاز اللغوي، عدم التكرار والاختصار - أعظم ما يردفي سورة يوسف – فقصة يوسف في القرآن لا نجد فيها التفاصيل التي يهتم بهاسفر التكوين في التوراة الحالية كالإسهاب في ذكر تفاصيل سني الجدب ووطأةالجوع وكيف استغل يوسف المجاعة لصالح الملك فجعل الشعب عبيدًا له - حسبزعم التوراة الحالية ! - واهتمت كذلك بعمر يوسف حين تزوج وأسماء زوجهوأولاده وسبب تسمية كل واحد منهم ! سورة يوسف قامت باختصار رائع حين ذكرتتطوع سقَّا الملك بالذهاب إلى يوسف في سجنه لتأويل حلم الملك..{ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [ يوسف: 45 ] فيقول القرآن بعدها مباشرة: { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ..}[ يوسف: 46 ] فلا ذكر لاستئذانه من الملك وركوبه دابته وطرقه باب السجن ثمدخوله على يوسف، بل لا ذكر حتى لكلمة:" قال سقا الملك:" لأن ذلك مفهومضمنًا. كما يذخر القرآن بألوان التقديم والتأخير والحذف والمجاز، واختيار لفظبعينه وغير ذلك مما يحتاج لمجلدات تشرحها، " فترى كل لفظة وقعت موقعهابحسب القياس، وبحسب ما يناسب كل حالة من حالات المخاطبين، فما من موضع مماذكرنا نلمس فيه مداهنةً أو ليونةً أو تقصيرًا في أي جانب من جوانب القول،قوةً وفخامةً في الألفاظ، ورهبةً وعنفًا في المعاني، لذلك كان الكافرونيرهبون سماعه ويصدون عنه صدودًا "(4).
* تناسب الألفاظ في القرآن:
فترى تناسبًا للفظ مع المعنى عجيبًا في التهديد والوعيد – مثل سورة المدثر(11 – 30) والمزمل (11 – 19) وغير ذلك - أو الترغيب – مثل النور (22)والصف ( 10 – 13) – أو العتاب أو غير ذلك، بحيث لا يمكن أن تحل لفظًا مكانآخر مهما صغر الاختلاف، "فالنعمة" ليست "نعيما"، والعكس بالعكس، و"الوالد"لا تضع بدلًا منه "أبًا " أو العكس، وكذلك لفظ "امرأة" فلان لا يكون"زوجة"، ولفظ "استخرج" لا يكون أخرج - مثل سورة يوسف: { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ }[ يوسف: 76 ]. إذ أن يوسف أراد أن يَحْبُك الخدعة فلم تكن السقاية إلا فيقاع وعاء بنيامين ليوحي بقصد الإخفاء، وكلمة "استخرج" تدل على صعوبةالإخراج -، كذلك . { اسْتَطَاعُوا } و{ اسْطَاعُوا } [ الكهف: 97 ] فالطول في بنية الكلمة يزيد في المعنى. [ للاستزادة في هذا الباب ننصح بالرجوع إلى كتاب: " معجم الفروق الدلاليةفي القرآن الكريم " للدكتور / محمد محمد داود – دار غريب للنشر ].
* اختلاف النظم في العبارات ذات المعنى الواحد:
كذلك هناك اختلاف للنظم في العبارات ذات المعنى الواحد، مثل قوله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [ الأنعام: 151 ]، وقوله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ الإسراء: 31 ]. ففي الحالة الأولى كان الفقر واقعًا فعلًا فكان مناسبًا أن يبدأ بالآباء،أما في الحالة الثانية فكان الفقر لم يقع بعد ويخشى أن يقع مع وجود الولد،فكان مناسبًا أن يبدأ بالأولاد ثم الآباء. ومثل قوله تعالى: {.. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم: 34 ]، وقوله تعالى: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النحل: 18 ]؛ فالسورة الأولى – سورة إبراهيم – موضوعها " كفر الإنسان بنعمة الله " فكانمناسبًا أن يكون التعقيب - الفاصلة – عن كفر الإنسان، أما السورة الثانية– سورة النحل – فموضوعها " تعدد نعمة الله على الإنسان " فكان مناسبًا أنيعقب بقوله: { إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }أي أنه تعالى سيغفر لكم عدم إحصائكم لها، لكثرتها. وعلى ذلك فقس كل القرآن، أما الأشد عجبًا فتحدي النظم القرآني بالحرف لا الكلمة فحسب.
* تحدي القرآن بالكلمة:
فنقرأ في سورة الزمر: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر: 71 ]، وقوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}[الزمر73 ]، فالواو لا يمكن أن تضاف إلى الحالة الأولى، كما أنها لا يمكنأن تحذف من الثانية، لأنك في الحالة الأولى تشعر أن المولى عز وجل قد أضافللكافرين – علاوة على جهنم – عذاب الفجأة، أما في الحالة الثانية فالواوتشعر بالإعداد وعدم الفجأة – وهو ما يتوافق مع فقرات أخرى من القرآن تدلعلى هذا المعنى -.
* تحدي القرآن بضمير الكلمة:
مثال ذلك ذكر القرآن اسمين لمسمى واحد في سورة يوسف ( السقاية – الصواع ).إذ حين يكلم القرآن مستمع القرآن وقارئه يقول ( سقاية ) وحين يذكر كلامأصحاب القصة مع بعضهم لا يقول إلا (صواع )، فالذي يبدو أنها في أصلهاسقاية ( كأس ) وقد استخدمت سقاية الملك هذه كمكيال للقمح النادر. لهذا كانمناسبًا ألا يقول في آخر الفقرة (ثم استخرجه من وعاء أخيه ) لأنه لو فعللقصد به الصواع المذكر وقد اتفقنا أن القرآن حين يخاطب مستمعه يذكر حقيقةالشيء (السقاية) ثم يذكر مسماها عند أصحاب القصة في حوارهم مع بعضهم البعض( الصواع ).
* توافق تفاصيل القصة الواحدة في مواضعها المختلفة:
ومن إعجاز البيان في القرآن الكريم كذلك توافق المواضيع أو أجزاء القصص فيأي موضع من القرآن فالقصة القرآنية (قصة موسى مثلًا )كما هو معلوم تردتفاصيلها في مواطن متفرقة من القرآن ؛ فقول فرعون لقومه قبل هلاكه: { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } [ غافر: 29 ] يتوافق مع ما ذكره القرآن في موضع آخر: { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [ طه: 79 ].
* الثراء اللغوي في القرآن الكريم:
ومن إعجاز البيان في القرآن الكريم كذلك أن يستخدم القرآن ثلث ألفاظ اللغةالعربية (1620) جذرًا ( هذا لم يحدث لأي كتاب عرفه البشر، بالرغم من أنحجم القرآن ليس كبيرا ) منهم (371) جذرًا يرد كل واحد منهم في القرآن مرةواحدة فقط، أي أن 23 % من جذور ألفاظ القرآن ترد مرة واحدة.. ( وهي نسبةتمثل قيمة بلاغية كبرى لأن استخدام اللفظ مرة واحدة بين أكثر من خمسين ألفمن الألفاظ هو قمة البلاغة ) ، وإذا تم هذا فيما يقرب من ربع اللغةالمستخدمة كان الإعجاز البلاغي عظيمًا، فالروس يفخرون بأديبهم "ليوتولستوي" لأنه في روايته "الحرب والسلام" أورد كلمة واحدة فقط لمرةواحدة(5). كما أن هناك (196) جذرًا يرد في القرآن مرتان فقط، كذلك (118)جذرًا يرد كل واحد منهم ثلاث مرات فقط. ما كل هذا الثراء في استخدام الألفاظ؟! هذا باب جديد من الإعجاز يسمىالإعجاز الإلكتروني – لأنه يستخدم الحاسوب – أو الإعجاز الإحصائي.
* كاتب إسلامي متخصص بالبشارات الدالة على النبي صلى الله عليه وسلم محمد في التوراة والإنجيل
عن موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
الهوامش:
(1) يرجع في هذا الباب للكتاب القيم: "أسرار ترتيب القرآن" للإمام جلال الدين السيوطي – دار الاعتصام. (2) "التصوير الفني في القرآن" لسيد قطب - رحمه الله - ص (75 ). (3) "الرد الجميل" لعبد المجيد صبح ص ( 178 ) (4) "خصائص التعبير القرآني" للدكتور عبد العظيم المطعني - رحمه الله – (1/270). (5) "ألفاظ القرآن الكريم دراسة علمية تكنولوجية" للدكتور علي حلمي موسى (82). المصدر: المنتدى العربي للدفاع والتسليح [ | |
|