اسد البراري المدير العام
رقم العضوية : 1 عدد المساهمات : 466 نقاط : 1134 تاريخ التسجيل : 13/10/2010 العمر : 63 الموقع : https://sanabel.ahlamontada.net
| موضوع: قصص سورة مريم - قصة مريم عليها السلام الخميس أكتوبر 28, 2010 11:04 pm | |
| قصص سورة مريم - قصة مريم عليها السلام بسم الله الرحمن الرحيم ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري
وردت قصة مريم عليها السلام كاملة في السورة التي سميت باسمها سورة مريم, والايات الكريمات التي تناولت قصتها انحصرت ما بين 23 - 35
تنحدر السيدة البتول مريم عليها السلام من أبوين مؤمنين عمران وحنّة, , فأمها حنة وكانت عاقراً لا تنجب , أطفالا وأبوها عمران بن آثان
مرت سنوات الحرمان على حنة وزوجها عمران , سنوات تراوحت بين الآلام والآمال,الآلام آلام الحرمان , فقد كانت تتألم أشد الألم كلما رأت طفلا تحتضنه أمهبين ذراعيها, وتغمره بعواطفها وحنانها, وكانت أحيناً كثيرة تبكي وأبصارها شاخصة الى السماء , الى الله تبارك وتعالى داعيةً مولاها عزوجل وجل وسائلةاياه بأن يرزقها الولد وقد بللت خديها بدموع الأمل والرجاء بأن يستجيبلدعاءها, هكذا والى هذا الحد من الرقة في العاطفة والأمل بالانجاب وصلتوبلغت
وكمافي الحديث فانّ الله عزوجل اذا أحبّ عبداً أحبّ دعاءه والحاحه في الدعاء,وكم أمضت حنة أم مريم من ليالٍ ساهرة تتعبّدُ وتتهجّدُ, تصلي بضراعةوشفاعةٍ, وتسألُ ربها عزوجل أن يمنّ عليها بالولد
ولأنّ الله تبارك وتعالى حق ووعده الحق بأن يستجيب لدعوة المضطر اذا دعاه فقداستجاب لدعاءها, وتحمل حملها الأول, فتستقبل ما منّ الله عليها من نعمةالحمل استقبالا منقطع النظير أذهب عنها كل معاناتها من غمٍّ وهمٍّ, وملأتالفرحة جوانب قلبها قبل حياتها, لتشرق الابتسامة على وجهها في كل قسماته,في عينيها وعلى ثغرها ومنطوق لسانها الشاكر دوما لآلاء الله عزوجل وأنعمهفتخرُّ ساجدة لله تبارك وتعالى شكراً وعرفاناً, وحين رفعت رأسها قالت قولالله تبارك وتعالى
ربّ اني نذرتُ لكَ ما في بطني مُحَرّراً فتقبّلْ مني انكَ أنتَ السميعُ العليمُ
نعمهكذا هو ديدنُ العباّد الزُهّاد الشاكرين لأنعم الله عزوجل , وقد كانت حنةعابدة متبتلة, وثيقة الصلة بالله عز وجل, شديدة الشفافية الروحانية, فلمااستجاب الله سبحانه وتعالى لضراعتها بالحمل نذرت وليدها خادما للهيكل,شكراً لله على نعمه وعظيم فضله
وتمرُّأيام الحمل وشهوره والسعادة تغمر حياة حنة الأم الصابرة الشاكرة , والهناءيرفرف بجناحيه في أجواء الدار الذي يضم جنيناً ينمو في رحم أمه, ولكن تشاء قدرة الله تبارك وتعالى أن يختار الى جواره زوجها عمران قبل أن يُكحّلَ عينيه برؤية باكورة انتاجه
وكم تمّنت حنة أن يمُدّ الله تعالى في أجل زوجها ليرى ثمرة زرعه , ولكنهامشيئة الله تبارك وتعالى ولا رادّ لقضاء الله عزوجل وقدره, ولا معقِّبَ لحكمه سبحانه وتعالى الأرأفُ على عباده من الأم على وليدها, ومع وفاةزوجها تنكفيء حنة على نفسها تُواسيها بما وهبها الله عزوجل من نعمة الحملوحركة الجنين
ويأتي أوان الوضع , ويشتد بها المخاض, ثم وضعت حملها وكان المولود على عكس ماتمنّت, كان أنثى, فأبدت بعض الأسف والعذر قائلةً قول الله تبارك وتعالى
ربّاني وضعْتُها أنثى واللهُ أعلمُ بما وضَعضتْ وليس الذكرُ كالأنثى , وانيسميتُها مريمَ واني أُعيذُها بكَ وذُرّيتَها منَ الشيطانِ الرجيمِ
وهنانتوقف عند هذه الآية الكريمة فقط لنوّضح أمراً مهماً أو خطئا مهماً يقعفيه الكثير من الناس, اذ للوهلة الأولى يعتقد بعض الناس أنّ قول حنّة بأنّليس الذكر والأنثى هو تفريق بين الذكر والأنثى, ولكن المعنى هنا على عكسما يتصوّرُهُ البعض, فالمعنى هنا يُشيرُ الى أنّ الذكر عندما يكون في خدمةالهيكل يختلف كثيراً عن الأنثى لنفس السبب, فخدمة الذكر لأماكن العبادةليس كخدمة الأنثى, اذ الذكر أجلدُ وأصبرُ من الأنثى على تحمُّل مشاقالعناية بأماكن العبادة والتفرغ لشئونها ومهامها
في المقابل حنّة لها أخت يُقالُ أنّ اسمها الياصبات , ومنهم من قال أنّ اسمها ايشاع, ولسنا هنا في معرض الاسم بقدر ما نحن في معرض أنّ اختها تكون زوجة النبي زكريا عليه الصلاة والسلام, وأيضا كانت عاقراًكأختها تماما لا تنجبُ أطفالا, وما أن وضعت الأم مولودتها مريم حتى وفّتبنذرها وحملتها في لفائفها الى الهيكل لخدمته, وكانت أمها وخالتها وزوجخالتها زكريا عليه الصلاة والسلام يتناوبون على خدمتها ورعايتها , وكانلزوج خالتها النصيب الأكبر في رعايتها اذ لم يكن ليفارقها من صباحٍ اومساء, لقد كان يرى فيها عوضاً عمّا فيه من حرمان الولد, ولله عزوجل في ذلكحكمة جليلة وحده سبحانه وتعالى يعلمها, وأيُّ حكمة, فالجمع الذي كان يلتفحول الطفلة مريم عليها السلام ويُغدِثُ عليها من عطفه وحنانه لم يكن سوىأدوات ووسائل سخرها الله عزوجل, لقوله تعالى
فتقبّلها ربُّها بقبولٍ حسَنِ وأنبتها نباتاُ حسناً
وتمر الآيام تعقبها الشهور والسنون ومريم عليها السلام تنمو وتكبر وتتألق نوراً وتتوهجُ ضِياءً, ومنذسنواتها الأولى ورجال الهيكل يتسابقون على خدمتها طاعةً لله عزوجل, كليردُ أنْ يحظى بهذا الشرف العظيم, فقال زكريا عليه الصلاة والسلام: أنازوج خالتها, وأنا أحقُّ برعايتها وكفالتها, فقالوا: لنقترعَ اذن, عندهاذهبوا الى نهرٍ جارٍ وألقوْا أقلامهم (وهي ألواح خشبية صغيرة تحمل اسم كلواحد من المقترعين) وتشاء قدرة الله تعالى أن تغرق جميع الأقلام عدا قلمزكريا عليه الصلاة والسلام, فما كان من المقترعين الا الاذعان للمشيئةالالهية, وبذلك حظيَ زكريا عليه الصلاة والسلام بكفالة ورعاية مريم عليهاالسلام, وهذا قوله سبحانه وتعالى: وكفّلها زكريا عندذلك وبعد أن وقع الاختيار على زكريا عليه الصلاة والسلام برعاية مريمعليها السلام ابتنى لها مكاناُ عالياً خاصاً بها داخل الهيكل لتتعبّد فيهوتتفرغ لعبادة الله عزوجل, واتخذ له سُلَّماً من خشبٍ يصعد عليه ليتفقدهاويرى احتياجاتها حتى اذا غادرها يطوي السلم ويؤؤويه في مكانه زيادةً منهعليه الصلاة والسلام في الحرص, وامعاناً منه في المحافظة عليها, حتى اذااشتدَّ عودُها , ونضجت أنوثتها شأن أترابها, وتفتحت أكمام زهرة ايمانهابالله عزوجل يزداد حرص زكريا عليه الصلاة والسلام ورعايته لها, خاصةًبعدما دخل عليها ذات يومٍ ففوجىء عند دخوله عليها بوجود فاكهة شهية في غيرأوانه فخاف عليها خوفا شديدا أن يكون من أحدٍ غيره من رجال الهيكل منالذين كانوا يتسابقون على خمتها ورعايتها, قد دخل عليها المحراب, فقالمتسائلا اياها سؤالا مشوباً بالجوع قوله الله تعالى
يا مريمَ أنّى لكِ هذا
فابتسمت البتول الطاهرة المطهرة مريم عليها السلام وقالت قوله تعالى
هوَ من عندِ الله, انّ اللهَ يرزُقُ منْ يشاءُ بغيرِ حساب
عندها سكت زكريا عليه الصلاة والسلام سكوت المتحيِّرُ المتردِّدُ, ومع تكرار هذا المشهد له لأكثر من مرّةٍ, كما في قوله تعالى
كلما دخلَ زكريا عليها المحرابَ وجَدَ عندَها رزقاً
فيُكررلها عليه الصلاة والسلام نفس السؤال, ولا يحظى منها عليها السلام الا نفسالجواب, فوجدها زكريا عليه السلام فرصة وهو في أطهر مكان وأقدس بقعة,فأحسّ برهبة المكان في المحراب, والتجلي الدائم من الله تعالى, والعطاءغير المجذوذ, عندها تضرّع الى الله عزوجل وقال قوله تعالى
ربّاني وهَنض العظمُ مني واشتعَلَ الرأسُ شيباً ولم أكنْ بدعائك ربيشقيِّياً* واني خفتُ المواليَ من ورائي وكانتْ امرأتي عاقراً فهبْ لي منلدُنكَ وليّاً * يرثُني ويرثُ آلَ يعقوبَ , واجعله ربّ رضِّياً فاستجاب الله عزوجل دعاءه وأوحى اليه
يا زكريا انا نُبشرُّكَ بغلامٍ اسمُهُ يَحيي لم نجعلً لهُ من قبلُ سمّيّاً
وهنا تستوقفنا هذه الآية العظيمة لنُبيِّنَ للقراء الأعزاء بأنّ الله عزوجلّ من أطلقَ على يحَيي عليه الصلاة والسلام اسمه الذي لم يحمله انسانٌ قطٌّ قبله
وحينتلقى زكريا عليه الصلاة والسلام البشرى الغالية, تنبّهَ من سبحةِ النفسوالروحِ في علياءِ الآمال والأمنيات, وراجعَ نفسَهُ فقال قوله تعالى:
قال ربّ أنّى يكونُ لي غُلامٌ وكانت امرأتي عاقراً وقدْ بلغت من الكِبَرِ عِتِيّاً
فيأتيه الجواب الالهي
قال كذلِكَ قال ربّكَ هوَ عليّ هيّنٌ وقد خلقْتُكَ من قبلُ ولم تكُ شيئاً
فهوى عليه الصلاة والسلام الى الأرض في سجودِ طويلِ يُسبِّحُ بحمد الله وعيناه تفيضُ بالدمع فتبلل لحيته وكأنه في غشية, ثم رفع رأسه , وقال قوله تعالى: قالّ ربَ اجعل لي آية اي اجعل لي علامة وسمة ودلالة, ليّ وللناس من أهلي ومواليَّ وأصحابي, فأوحى الله عزوجل اليه : قال آيتُكَ ألاَّ تُكَلِّمَ الناسَ ثلاثَ ليالٍ سوِّيّاً
كلهذا وزكريا عليه الصلاة والسلام لا يزال في المحراب, محراب مريم عليه االسلام, ولما أخذ عليه الصلاة والسلام حظّهُ من الموقف الجليل خرج منالمحراب على قومه يدعوهم بالاشارة الى تسبيح الله عزوجل بكرةًوعشيّة,شكراً لله عزوجل على ما أولاه من نعمة الولد
فخرج على قومهِ , من المحرابِ فأوحى اليهمْ أنْ سبِّحوا بُكرةً وعشِيّاً
وتمتْكلمة ُ ربّكَ صدقاً وعدلاً, فأصلح الله عزوجل لزكريا عليه الصلاة والسلام زوجَهُ فحملت ثم وضعت يَحيي عليه الصلاة والسلام الذي سمّاهُ الله عزوجل ,والذي جاءَهُ الأمر منذ ولادته, كما في قوله تعالى
يايَحييَ خُذِ الكتابَ بقوّةٍ, وآتيناهُ الحكمَ صبيّاً * وحناناً من لدّناوزكاةً, وكانَ تقيّاً* وبَرّاً بوالديْهِ ولمْ يكنْ جبّاراً عصيّاً*وسلامٌ عليهِ يومَ وُلِدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبْعثُ حيّاً
نعودالى البتول السيدة مريم عليها السلام والتي لا تزال في عزلتها في المحراب تؤدي فرض ربها عزوجل بالعبادة والخدمة, لا تأبه لشيءٍ من دنيا البشر, فماتوفر لها من الرعاية الالهية من كل وجوهها يجعلها تسمو الى العلياء فيرضوان الله عزوجل ورحابه الطاهر تفيض عليها رحمة الله عزوجل مقرونة باليمنوالخير والبركات
وذات يومٍ وهي تتحلّقُ في أجواء الروحانيات , وتسمو بعيدة عن كل عن الماديات ,وكأنها طيفٌ من الأطياف مع ملائكة الرحمن عليهم من الله عزوجل أفضل الصلوات وأتم التسليم, وحالها بلسان رطب بالذكر والتسبيح لربّ كريم مجيد ,وبقلب معلق بعليين, اذ اتاها جبريل عليه الصلاة والسلام بصورة بشرية, فتنبّهت على حركة من خلفها, فاذا هي بانسان من وراءها لم يسبق لها أن راته من قبل,ولا تعرف كيف اقتحم عليها خلوتها في محرابها, فاستعاذت بالله عزوجل منهحتى وان كان تقّيا صالحا, اذ على حسب مقياس مفهوم البشر المحدود أنه اذا اقتحم أحد خلوة امرأة فهو بلا شك ليس تقياولا صالحا, ولو أنها تدرك أنه ملك مرسل من الله عزوجل , لما استعاذت منه,ولكن ما يُدريها أنه كذلك عليه الصلاة والسلام
أعوذ بالرحمن منك انْ كنت تقيّاً
فهدّأ جبريل عليه الصلاة والسلام من روعها وقال لها لا تخافين, ما أنا الا رسولٌ من عند الله عزوجل أرسلني اليك لأهبّ لك طفلاً سيكون له شأنٌ عظيم, كما فيقوله تعالى
انما أنا رسولُ ربّكِ لأهبَ لكِ غلاماً زكّيّاً
وماأن سمعت الاية الكريمة حتى ازداد خوفها واضطرابها وهلعها عن ذي قبل,وسألته : كيف هذا وأنا التي لا زلت بتولٌ عذراء ولم يلمسني بشر ولستُ معاذالله بغيّاً؟ اذ الناموس في البشر وقانون الحياة يقضي على غير ما يخبرهابه جبريل عليه الصلاة والسلام, كقوله تعالى
أنى يكونُ لي ولدٌ ولم يمسَسْني بشرٌ ولم أكُ بغِيّأً
فأجابهاعليه الصلاة والسلام , وأين الاستحالة بتحقيق أمر كهذا ,وأمره عزوجل بينالكاف والنون, واذا قضى أمراً وأراد شيئا ان يقول له كن فيكون, وما هذاالغلام الا علامة كبرى على درب الهداية للمؤمنين يسير, وعلى درب الرحمةللمعذبين في الأرض ليخلصهم من براثن الظلم والجهل ومن نير العبودية, الالله وحده لا شريك له, وما ارادته سبحانه وتعالى في أمر كهذا الا أمراًمحكومٌ بمشيئة الله عزوجل , ومكتوب في اللوح المحفوظ منذ الأزل, وهذا ماتجلى في قوله تعالى
قال كذلِكِ قال ربُّكِ هوَ عليَّ هيِّنٌ ولنجعلَهُ آيةً للناسِ ورحةً منّا , وكان أمراً مقضِيّاً
وعندماأيقنت مريم بانّ جبريل عليهما والسلام ما هو الا رسول الله تعالى اليهاحتى أذعنت لأمر الله عزوجل وقضاءه وارادته , وبعد أن ادى مهمته الموكلة اليه غابَ عنْ ناظريْها ليتركها في واقعِ جديدِ وأمر عتيد لم تحسَبُ لهحساباً يوما ما, فطافت في ذهنها أفكارٌ شتى, ونازعتها الوساوس, واوجست فينفسها خيفة لم تهعدها من قبل, وهي تتخيّلُ ما يمكن أن ان يكون حالها,وماذا ستتقوّلُ الناس عنها, وهي العفيفة الطاهرة المطهرة, العابدة التقيةالصالحة, هكذا يعرفها أهلها, وهكذا يعرفها الناس قاطبةً, وطالما أنهاستنجب طفلا ولم يسبق لها الزواج, اذن فلا بدّ أن تُتهم في عرضها, ولا بدّأن يجُرح شرفها, ولا بدّ أن تُثلَمُ براءتها ثُلماً لا ينفعُ معه دفاعٌولا معارضةٌ , حتى ولا مكابرة, لقد بدت حائرة مترددة قلقة مضطربة, لاتستقر على حالٍ او وضعٍو تقومُ وتقعدُ, تمشي وتقفُ, تنظر الى أعلى ثم تطرق الى أسفل, عيناها زائغتان, ودموعها غزيرة مدرارةٌ حرّى, خاصّة كلما عادت بذهنها الى تذكر الواقعة, ولم يصرفها عن هذا الا تحلقها في أجواء الملأ الأعلى مترفعة عن حِطَّةُ الدنيا وماديّةُ الارض, وقد أسلمت أمرها الى الله عزوجل ومشيئته النافذة
هكذامرّت عليها أشهر الحمل في معاناة قاسية جدا لم تعد معها تطيق حتى نفسها,لم تعد تريد رؤية احداً من الناس أو حتى يروها, ولتحقيق ذلك فقد قرّرتالخروج من بيت المقدس الى مسقط رأسها في الناصرة لتعتزل عن الناس في بيتريفي مدّعيّةً المرض والتعب كهروب من الناس الى الذات تنتظر قضاء الله عزجل
وجاء اليوم الموعود, ويحين أوان الوضع, وتدنو اللحظة الحاسمة في اختيارها للأمر الجلل, وتخرجعليها السلام من بيتها ووحدتها تهيمُ على وجهها, لا تدري وجهتها وقدبلغتهمومها ووساوسها ذروتها, حتى اذا أوت على مكان مكانٍ مقفرٍ أجرد عندجذع نخلةٍ يابسةٍ اذ جاءها المخاض , وهي بحالة نفسية وجسدية يُرثى لها لمتستطع مع آلامها حراكاُ , مما اضطرت أن تبقى مكانها, فهوّنَ الله عزوجلعليها معاناتها بوضع طفلها عيسى عليه الصلاة والسلام, ونظرت اليه فياشفاقٍ وحنانأ, ويومها تمنت الموت على أن تقف هذا الموقف وتتهم بشرفهاوبراءتها, وغاصت عيناها بالدموع وقد خرجت الثمرة من مكنون الرحم الى عالمالوجود, ونعم الثمرة هذه ونعم الحامل والمحمول, وسبحان الخلاق العظيم منأمره بين الكاف والنون, وقالت في أسىً وحسرةً قوله تعالى
يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا وكنتُ نسْياً منسِيّاً
وجاءها صوتً رقيقً لطيفً من أعلى , فسكن بعض ثورتها على ذاتها, وشعرت أنها في حمى حِصْنٍ وملاذٍ امين لا تتخلى عنها في الشدة, فناداهامن تحتها ألا تحزني قدٍ جعلً ربكِ تحتكِ سرِّيّاً* وهُزّي اليكِ بجِذْعِ التنخلةِ تُساقطْ عليكِ رُطَباً جنِّنياً* فكلي واشربي وقّري عينا فكان عليها هذا القول الكريم بردا وسلاماً هدّاَ من روعها وخوفها وقلقها , واطمأنت , وزادها اطمئناناً صوت الهاتف يقول
واما تَريِنَّ أحداً من البشرِ فقولي اني نذرتُ للرحمنِ صوماً فلنْ أُكلّمَ اليومَ انسيّأً
وتلوذعليها السلام بحمى الرحمن الذي اصطفاها على نساء العالمين, فطّهرها المولىعزوجل من الدنس, وبرّأها من الخطيئة والاتهام, ونشّأها على عينه سبحانهوتعالى آيةً من آيات القداسة حملت عليها السلام وليدها العظيم في لُفافته, وعادت الى قريتها في الناصرة,وأتت به قومها, وذاع الخبر وشاع , وبدأ المرجفون المتقوّلون يقولون:تعالوا انظروا الى مريم وقد سقطت في وحل الخطيئة والمعصية, سقطت من علياءالطهر والكرامة الى حضيض الدنس والرذيلة, وعلت أصواتهم لتكون ضجيجا, ثمّواجههوها بالثورة عليها والانتقاص منها وازدراءها فقالوا لها: هل ما كانمنك من الطهر والتبتل والقداسة ستاراً خادعاً زائغاً؟
وقاللها آحرون في شيء من الاشفاق: ما عرفنا أباك عمران الا مثالا للطهر والعفةفهو صاحب أصلابنا, وامك حنة لم تقل عن أبوك شأناً فقد كانت موضع تقديرناواخترامنا, يا آسفاً عليك يا مريم, لقد ضيّعتِ أصالة الجذور الطيبةالكريمة في متاهات الهوى, وهذا ما تجلى في قوله تعالى
يا مريمَ لقدْ جِئْتِ شيئاً فرّيَاً * يا أختً هارون ما كان أبوكِ امرأ سوءٍ وما كانتٍ أمُّكِ بغِيّاً
هذاما كانت تخشاه البتول العذراء عليها السلام, ولجل هذه الاتهامات كانت قدتمنّت الموت على أن تقف بين قومها موقفاً كهذا, ولكنها الآن أكثر صلابةًوقوةً بعدما اطمئنت على أنذ الله معها ولم يُسلمها لهؤلاء المتقولون, لذانجدها وقد تحمّلت كل هذا الهجوم العنيف بصبرٍ وجلَدٍ, ولم تنبس ببنت شفةامتثالا لأمر الله عزوجل , بل كظمت غيظها, وطوت جناحها على سرها, ثمّأشارت الى وليدها, وهنا ازداد الناقمون عليها ثورةً, والمستفسرون هياجاًواضطراباً, لاعتقادهم بأنها عليها السلام تسخر منهم وتستهزىء بهم, وتستصغرشأنهم, هم ينتظرون تبريرا منها وهي تشير لهم ب الى طفلٍ وليد فغي أسبوعه الثاني يمشي, لكنهم لم يلبثوا أن أخرسهم الله عزوجل وأبهتم عندما أنطق الله تعالى الطفل عيسى بن مريم عليهما السلام ليُبرأ أمه من التهم التي القاها عليها قومها, فقال قوله تعالى
اني عبدُ الله آتانيَ الكتابَ وجعلني نبيّاً * وجعلني مباركاً أين ما كنتُوأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دُمتُ حيّاً * وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً * والسلامُ عليّ يومَ وُلِدْتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبْعَثُ حيّاً
فأذعناكثرهم لقول الله عزوجل لما فيه من دليل براءة مريم عليها السلام من التهمالني نسبت اليها ظلما وبهتانا وجهلا, واصغوا بقلوبهم وعقولهم الى الحجةالدامغة التي لا تقبلُ الجدل لكنقلة قليلة كفرت جهلاً وظلما, وركبت رؤوسها وظلت على ولاءها لشيطانها, ذلكمون يتهم مريم عليها السلام اليوم بالسوء ويتهمها بالزنا بعد تبرئتها يكونكفر بالقرآن الكريم, ومن يكفر بالقرآن فقد كفر
انّالسيدة مريم قبل حملها بعيسى عليه الصلاة والسلام كانت مخطوبة لشابٍ اسمهيوسف النجار, ولقد وقف معها موقفاً مشرفاً خلال محنتها كلها ولم يتخلى عنها أبدا, بل كان يدافع عنها بكل ثقة مقتنعاً بما جُبِلت عليه, وما أُختيرت له, ظلّ وفيّاً لها ملازماً اياها
وحينأعطى الحاكم الروماني هيرودوس أوامره بقتل جميع أطفال بني اسرائيلالمولودين حديثا بناءً على مفادة أفاد بها الكهان والعرافون بميلاد طفل منسلالة داوود عليهما الصلاة والسلام يرثُ الملك, شأنه شأن فرعون مع موسىعليه الصلاة والسلام, عندها حمل يوسف النجار مريم وطفلها عليهما السلامفاراً بهما الى مصر, في مكان آمنٍ لا يصلهم اليه أحد وصفه القرآن الكريمبقوله: الى ربوةٍ ذاتِ قرارٍ ومَعينِ , فأقاموا بها زمناً, حتى اذا هدأ الطلب على المواليد وانتهى الأمر عادوا جميعا الى الناصرة وهناك في الناصرة عاشت مريم راعيةً لابنها عليهما السلام, حتى اذا بلغ من العمراثني عشر عاماً سافرت به الى بيت المقدس لحضور احدى المناسبات الدينية,وكان وعيه عليه السلام أكبر من سنه بما آتاه الله عزوجل من الفهموالادراك, وبما وهبه من ذكاءٍ وقّادٍو وفصاحة لسانٍ وبيان كلام, لقد كانعليه السلام رجلا ناضجا في سن مبكرة, غير خاضع لنواميس البشر المتعارفعليه, ولم تأخذه مظاهر المدينة المقدسة, او تستحوذ عليه بما فيها من زحامٍوعمرانٍ وحركةٍ ولهوٍ وزينة, ويومها انفلت عليه السلام من يد أمه وقصدالهيبكل ليجالس كبار الأحبار والعلماء وناقشهم وحاورهم, وقال أقوالاً لم يألفوها, فمال بعضهم اليه, وزجره أكثرهم, الا أنه أفحمهم جميعا وأعجزهم,وبعدما اقام عليهم الحجة عاد الى أمه التي لم تتوانى عن تعنيفه بفعلتهتلك, فاستقبل تعنيفها له بكل أدب واحترام وتقدير, وأخبرها عما كان من شأنهفي الهيكل, وحواره مع كبار العلماء, فنصحته بالتوقف عن مثل ذلك خشيةً عليه ورفقا به, لعلمها ما في نفوس الكهان والأحبار من غلوهم في المعتقد, لكنّهعليه السلام أبى الاذعان وأبى الا قول مقولة الحق
وماأن بلغ الثلاثسين من عمره الشريف حتى صدّعَ لأمر الله عزوجل, وحمل أعباءالرسالة, وانطلق يُبَشّرُ بالكلمة في كل مكان, لم يترك جمعاً الا أتاه,ولا نادياً الا ولجه, ولا قريةً الا ونزل بها, وتبعه بعض الناس منالتلاميذ النجباء, فقهوا دعوته واستوعبوها, وأعانوه في اذاعتها في كلالأوساط, وقد أطلق الله عزوجل عليهم الحواريون
في هذه الأثناء شعر البعض من أحبار (علماء)اليهود بفقدان نفوذهم ومراكزهم, وزلزلة كيانهم ومواقعهم, الأمر الذي قادهملأن يسعوا بالوشاية عند الحاكم الروماني بيلاطس, وأخذوا يشوهون صورته عليهالسلام ويدّعون أنه ساحرٌ مشعوذ, واتهموه اتهامات ظالمة باطلة كأن قالواله: انه يُبرىء الأعمى والاكمه والابرص , ويُحيي الموتى بالدجل والافتراء,ويسعى في الارض الفساد, لأجل ذلك لا بدّ من الخلاص منه والقضاء عليه قبلأن يستشري أمره ويستفحل شأنه
لقدأيد الله عزوجل عيسى عليه السلام بأن جعله لا يستقر في مكان ولا يهدأ ,يطوف في أنحاء البلاد شرثاً وغرباً مبشراً وداعياص الى عبادة الله الواحدالقهار الها واحدا لا شريك له, وما أن أدرك أنه مطاردٌ وملاحقٌ من قبلالسلطة الحكمة الظالمة حتى زاد من تنقله وتخفيه, ولكن كان هناك واحدا منحوارييه ويدعى يهوذا الأسخريوطي ضعيف الايمان, سقيم الوجدان, عليل الروح,فسعى الى الحاكم والأحبار, فدلهم على مكانه المتخفي فيه, ونال على تلكالوشاية والخيانة دراهم معدودة لا تسمن ولا تغني عن جوع, وثمناً لخيانته الدنيئة وبدلا من أن يمسك الجنود بعيسى عليه السلام في مكان اختفاءهقبضوا على يهوذا نفسه, عندما ألقى الله عزوجل شبه عيسى عليه السلام على يهوذا الذي أذهلته المفاجأ وأخرسته عن الكلام, فما استطاع أن ينبس ببنتشفة, ورفع الله عزوجل عيسى عليه السلام اليه تحمله الملائكة وتتلقاه أيديالرحمة
وحُملَ يهوذا على أنه عيسى عليه السلام, وصلب عقاباً له, وسرَت الشائعة بصلب عيسىعليه السلام, وتناقلتها الألسن وسرت مسرى النار في الهشيم, لينفي القرآنالكريم مقالتهم الظالمة بقوله تعالى في سورة النساء 157- 158:
وماقتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّهَ لهم, وانّ الذينَ اختلفوا فيه لفي شكٍّ منهما لهم به من علمٍ الا اتباعَ الظنِّو وما قتلوهُ يقيناً * بل رفعه اللهاليهِ , وكان اللهُ عزيزاً حكيماً
ونما أن قل الخبر الى أمه مريم عليها السلام , حتى ردّدت مقالة ابنها بقوله تعالى: والسلام عليّ يومَ وُلِدْتُ ويومَ اموتُ ويومَ أُبْعَثُ حيّاً ولم تلبث عليها السلام الا زمنا يسيرا بعد رفع ابنها عليه السلام حتى توفاها الله عزوجل
وقدورد في تفسير العلامة ابن كثير رحمه الله للآية التي تلت كلمة المسيح عليهالسلام والتي ألقاها على أمه عليها السلام حين تكلم في المهد وبرأها منالتهمة المنسوبة اليها, فقد أجمع علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهمأجمعوا انّ قسطنطين أول من حرّف الانجيل وغيّر دين المسيح عليه السلام,واستبدلها لهم بكتب القوانين , وشرّعَ لهم أشياء ابتدعوها, وبنى لهم يومهاالكنائس الكبرة في مملكته كلها المتمثلة يومئذ ( ببلاد الشام والجزيرةالعربية وبلاد الروم) وقد بلغ عدد الكنائس يومها حوالي 12 ألف كنيسة, وعلىالرغم من الايذاء الشديد والافتراء على الله عزوجل بأن وعموا له ولداً,سبحانه وتعالى عما يشركون, الا أنه سبحانه وتعالى بحلمه العظيبم أنظرهمالى يوم القيامة, فمن صفات الله عزوجل أنه سبحانه وتعالى لا يُعجّلَالعقوبة بمن عصاه, كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلمأنه قال: لا أحد أصبرُ على أذى سمعه من الله, انهم يجعلون له ولداً, وهو يرزقُهُم ويُعافيَهُم وقد جاء في الحديث المتفق عليه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:مَنْ شَهِدَ أنْ لا الهَ الاّ الله وحدّهُ لا شريكَ له, وأنّ محمداًعبدُهُ ورسوله, وأنّ عيسى عبد الله ورسوله, وكلمتِهِ ألقاها الى مريمَوروحٌ منه, وأنّ الجنةَ حقٌّ والنارٌ حقٌّ, أدخلَهُ الله الجنةَ على ماكانَ عليه من العمل أو كما قال عليه الصلاة والسلام
وقد قيل أنّ الكلمة التي ألقاها عيسى على أمه عليهما السلام , هي كن, بمعجزة الله عزوجل في حمل أمه به عليهما السلام من غير أب, وما انطاقالله عزوجل لعبده عيسى عليه السلام وهو لا يزال في المهد بكلمة العبوديةوأنه عبد الله وورسوله, الا ليبرءَ امه مريم عليها السلام من التهمالباطلة التي نسبت اليها قديما وحديثا والتي وصلت بهم الى حد الاشراكبالله تعالى أن نسبوا اليه سبحانه وتعالى ولداً , تعالى الله عما يشركونويصفون علوا كبيرا, ولعنوا في الدنيا والآخرة لعناً كبيراً قالَ اني عبدُ الله آتانيَ الكتابَ وجعلني نبيّاً وبقوله تبارك وتعالى الكريم نكون قد أتينا على مسك الختام | |
|