اسد البراري المدير العام
رقم العضوية : 1 عدد المساهمات : 466 نقاط : 1134 تاريخ التسجيل : 13/10/2010 العمر : 63 الموقع : https://sanabel.ahlamontada.net
| موضوع: السهر المجهول الأحد نوفمبر 28, 2010 11:24 am | |
| السهر المجهول الحمد لله وبعد،،
تتحدث كتب النفس وبرامج الاستشارات التلفزيونية والنصائح الطبية ونحوها عن مشكلةيسمونها (مشكلة السهر) .. ويطرحون لها الحلول والعلاجات ويتكلمون عنأضرارها، لكن ثمة نوع آخر من السهر لا أرى له ذكراً بينهم .. إنه سهر مننوع خاص .. سهر يذكره القرآن ويتحدث عنه كثيرا .. وكلما مررت بتلك الآياتالتي تتحدث عن هذا السهر شعرت بالخجل من نفسي..
في أوائل سورة الذاريات لما ذكر الله أهوال يوم القيامة توقف السياقثم بدأت الآيات تلوِّح بذكر فريقٍ حصد السعادة الأبدية واستطاع الوصول إلى(جناتٍ وعيون) .. ولكن ما السبب الذي أوصلهم إلى تلك السعادة بين مجاهلتلك الأهوال؟ إنه ( السهر المجهول ) .. تأمل كيف تشرح الآيات سبب وصول ذلك الفريق إلى الجنات والعيون:
( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ )[الذاريات،16-17].
أرأيت .. استحوذ عليك المشهد؟ لا عليك، شعورٌ طبيعي جداً..
تأملكيف كان سبب سعادتهم أن نومهم بالليل "قليل"! إذن أين يذهب بقية ليلهم؟يذهب بالسهر مع الله جل وعلا .. ذلك السهر المجهول.. ذكرٌ لله، وتضرعٌوابتهالٌ بين يديه، وتعظيمٌ له سبحانه، وافتقارٌ أمام غناه المطلق سبحانه،وركوعٌ وسجودٌ وقنوت .. هذا غالب الليل.. أما القليل منه فيذهب للنوم..القليل فقط بنص الآية ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون )..
وفي سورة الزمر لما ذكر الله عدداً من الآيات الكونية عرض هذا السهرالإيماني بصيغة أخرى، لكن فيها من التشريف ما تتضعضع له النفوس .. لقد جعلالله هذا السهر الإيماني أحد معايير (العلم)، نعم.. قيام الليل أحد معاييرالعلم بنص القرآن، وهذا أمر لا تستطيع بتاتاً أن تستوعبه العقول الماديةوالمستغربة لأنها لم تتزكّ بعد بشكل تام وتتخلص من رواسب الجاهليةالغربية، لاحظ كيف دلت خاتمة الآية على التشريف العلمي لهذا السهرالإيماني، يقول تعالى:
( أَمَّنْهُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَوَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَوَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) [الزمر، 9]
فلاحظ في هذه الخاتمة كيف جعل الله من لم يقنت آناء الليل فهذا مؤشرعلى جهله، ومن قنت آناء الليل فهذا مؤشر على علمه.. وقد يقول قائل .. لكنكثيراً ممن لا يقنت آناء الليل نرى بالمقاييس المادية المباشرة أن لديهعلماً؟ فالجواب أن القرآن اعتبر العلم بثمرته لا بآلته، وثمرة العلمالعبودية لله، فمن ضيع الثمرة لم تنفعه الآلة..
ثم لاحظ كيف وصفت الآيات تنوع العبادة ( ساجداً وقائماً ) .. بل وصفت الآية أحاسيس ومشاعر ذلك الساهر .. فهو من جهة قد اعتراه الوجل من يوم الآخرة ومن جهة أخرى قد دفعه رجاء رحمة الله ( يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه ) .. تمتزج هذه المشاعر الإيمانية طوال الليل البهيم بينما الناس حوله هاجعون..
هل ترى الله تعالى بعظمته وقدسيته سبحانه يصوِّر هذا المشهد الإيمانيالليلي بلا رسالة يريد تعالى إيصالها لنا؟ أليس من الواضح أن الله يريدناكذلك؟ يريدنا أن نكون قانتين آناء الليل ساجدين وقائمين نحذر الآخرةونرجوا رحمة ربنا..؟ وتذكّر أن الله جعل ذلك معياراً من معايير (العلم)،ألا نريد أن نكون في معيار الله من (أهل العلم) ؟
وفي أواسط سورة السجدة ذكر الله المؤشرات الظاهرة التي تدل على إيمانالباطن، حيث استفتحها بقوله (إنما يؤمن بآياتنا.. الآية) وفي ثنايا تلكالمؤشرات صورت الآيات مشهد ذلك المؤمن الصادق، وهو في فراشه، تهاجمه ذكرىالآخرة فلا يستطيع جنبه أن يسترخي للنوم.. تأمل قوله تعالى:
( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ) [السجدة: 16].
أخي الكريم .. يشهد الله وحده –وأنا أعلم شدة هذا الاستشهاد- أننيمامررت بهذه الآية إلا أحسست بمقاريض الحرج تنهش أطرافي .. هاقد تصرمتثلاثة عقود من عمري وأنا لم أتذوق هذا المقام الذي تصوره هذه الآية ..مامررت بهذه الآية إلا تخيلت أولئك القوم الذين ترسم هذه الآية مشهدهم ..وكأني أراهم منزعجين في فرشهم تتجافى بهم يتذكرون لقاء الله، ثم لم يطيقواالأمر، وهبُّوا إلى مِيضأتهم، وتوجهوا للقبلة، وسبحوا في مناجاة مولاهم ..{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } ..
صحيحٌ أن هناك آيات كثيرة صورت السهر الإيماني، لكن هذه الآية بخصوصهالها وقعٌ خاص، مجرد تخيل أولئك القوم وهم يتقلبون في فرشهم ثم يهبّونللانطراح بين يدي الله وتضرعه وهم بين الخوف من العقوبة على خطاياهموالرجاء الذي يحدوهم لبحبوحة غفران الله، ثم مقارنة ذلك بأحوالنا وليلناالبئيس يجعل الأمر في غاية الحرج، إنهم قومٌ ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا )..
بل وتأمل في بلاغة القرآن كيف يجعل البيات قياماً كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان ( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا )[الفرقان: 64]
إنهم يبيتون .. لكنهم يبيتون لربهم في سجود وقيام..
ومن ألطفمواضع السهر الإيماني أن الله جعله من أهم عناصر التأهيل الدعوي في بدايةالطريق، الله سبحانه وتعالى لم يجعل أعظم السهر الإيماني في آخر الدعوةالنبوية بعد استيفاء التدرج، كلا، بل جعله في أولها! فقال تعالى لنبيه فيآياتٍ كادت تستغرق الليل: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا ) [المزمل، 1-2] لاحظمعي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- في بداية الدعوة، ومع ذلك يقول له (قمالليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه).. وهل كان فعل ذلك مختص برسول الله؟ لا، بل كان أصحابه في أيام غربة الدعوةيصلون معه تلك الصلوات التي تستغرق الليل، يقول تعالى في آخر السورة: ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ )[المزمل، 20].
السابقون الأولون من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خلّد اللهقيامهم غالب الليل في كتابه العظيم، أي شرف أعظم من هذا الشرف لأصحاب رسولالله.. أما نحن فمنا أقوامٌ ينامون الليل كله ويستثقلون دقائق معدودةليتهجدوا فيها بين يدي الله، ومنا أقوامٌ يسهرون الليل كله لكن فياستراحات اللهو ويستكثرون أن يتوقفوا لدقائق ليقفوا بين يدي الله، ومناأقوامٌ يذهب ليلهم في تصفح شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعيومشاهدة مقاطع اليوتيوب وتعليقاتٍ تافهة لا تقرب من الله ويمن على نفسهبركيعات في آخر الليل لله جل وعلا.. بل هناك ماهو أتعس من ذلك، وهو أنبعضهم ينقضي الليل ويدخل وقت الفجر وتقام صلاة الفريضة والإمام يقرأ فوقرأسه بينما هو لازال كما قال تعالى: ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ) [النساء، 142].
وأتذكر مرةً أنني كنت أستمع لبعض المنتسبين للدعوة يتحدث عن النجاحوالوقت وإدارة الذات الخ، ولما جاء لقضية النوم، عرض النوم كما يعرضهالإنسان الغربي تماماً، بل صار يغالي في ضرورة أخذ أكبر قدر من النومويتحدث بنفس المعايير الغربية.. يا ألله .. هل بلغت غربة الدين هذاالمبلغ؟ فأين ذهبت حقائق القرآن ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ) ، ( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائما ) ، ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) ، ( والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما )..صحيح أن ذلك نفلٌ ولكن لماذا صار النفل يغيب عن وصايانا؟ لماذا خضعتالشريعة للتخفيضات؟ لماذا صرنا نخجل من كتاب الله؟ لو كان النوم بالمعاييرالغربية أنفع للإنسان لما ندبنا الله لضده في كتابه في مواضع كثيرة..
والله لو تدبرنا القرآن ونحن مستحضرين هذا السؤال: كيف نصوغ حياتنا فيليلنا ونهارنا؟ لفجعنا بشدة المفارقة بين فهم المؤمن لهذه الحياة الدنيا،وفهم الإنسان الغربي المسكين لها..
وبعض الشباب يقول: إنني لمأتعود على قيام الليل، وليس لي تجربة سابقة، وأشعر أنها صعبة، الخوالجواب: يا أخي استعن بالله ولنبدأ سوياً من هذه الليلة القادمة، لا تؤجلهذا المشروع أبداً، وصدقني ستجد لذةً في البداية يهبها الله من يقبل عليهليعينه، وهذه اللذة والسرور تحدث عنها أهل العبودية يقول ابن القيم ( قالالجنيد " واشوقاه إلى أوقات البداية" يعني: لذة أوقات البداية، وجمع الهمةعلى الطلب والسير إلى الله ) [مدارج السالكين، ابن القيم].
فهنيئاً لك يا أخي الكريم لذة أوقات البداية..
وهذه الآياتكلها التي صورت قيام الليل يدخل فيها مرتبتان، قيام الفرض كصلاة العشاءوقيام الكمال كالتهجد، وبعض المفسرين يخطئ في حمل بعض هذه الآيات على أحدالمحملين، والصحيح أنها تشمل المرتبتين..
ولكن ما وظيفة هذا السهر الإيماني؟ الحقيقة أن وظائفه كثيرة جداً،ولكن من أعظم وظائفه أن تلك اللحظات هي لحظات (الاستمداد) .. إذا تجافىجنب المؤمن عن المضجع وتوضأ ثم وقف بين يدي ربه ثم سجد بدأت دقائقالاستمداد .. فيستمد من خزائن رحمات الله.. من أرزاقه.. من العلم.. منالتوفيق.. من الهداية.. إنها لحظة الدعم المفتوح.. ورحمات الله إذا فتحتفلا تسل عن أمدائها (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَامُمْسِكَ لَهَا) [فاطر، 2]
اللهم يارب الليل البهيم .. اجلعنا من تتجافى جنوبهم عن المضاجع ندعوك خوفاً وطمعا.. تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا السجدة، 16
| |
|