اسد البراري المدير العام
رقم العضوية : 1 عدد المساهمات : 466 نقاط : 1134 تاريخ التسجيل : 13/10/2010 العمر : 63 الموقع : https://sanabel.ahlamontada.net
| موضوع: السر الأعظم للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله السبت أكتوبر 23, 2010 1:47 pm | |
| السر الأعظم للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله
ما هو السر الأعظم، الذي لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر عليهالإشارة، ولا ينادي عليه المنادي على رءوسالأشهاد، بل شهدته قلوب الخواص فازدادت به معرفة ومطالعة له.
وقد كان الأولى بنا طَيُّ الكلام فيه إلى ما هو اللائق بأفهامِ بنيالزمان وعلومهم، ونهاية أقدامِهم من المعرفة، وضعف عقولهم عن احتماله، غير أنّا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارفبقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفا بها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، وربحامل فقه إلى من هو أفقه منه.
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرّمهوفضّله وشرّفه، وخلقه لنفسه، وخلق كلَّ شيء له، وخصّه من معرفته ومحبته وقُربه وإكرامهبما لم يُعطه غيره، وسَخَّر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما، حتى ملائكته -الذين هم أهل قربه - استخدمهم له، وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته،وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلمه منه إليه، واتخذ منهمالخليل والكليم، والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن أسراره، ومحلَّ حكمته،وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوعالإنساني؛ فإنه خلاصة الخلق، وهو المقصود بالأمر والنهي، وعليه الثواب والعقاب.
فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلق أباه بيده، ونفخفيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، وأظهرَ فضله على الملائكةفمن دونهم من جميع المخلوقات، وطرد إبليس عنقربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين، واتخذه عدوا له.
فالمؤمن من نوع الإنسان:خير البرية على الإطلاق، وخيرة الله من العالمين،فإنه خلقه ليتم نعمته عليه، وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لمتنله أمنيته، ولم يخطر على باله، ولم يشعر به، ليسأله من المواهب والعطايا الباطنةوالظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تنال إلا بمحبته، ولا تنال محبته إلا بطاعته،وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوبا له، وأعدَّ له أفضلَ ما يُعده محب غني قادرجواد لمحبوبه إذا قدم عليه، وعهد إليه عهداً تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه،وأعلمه في عهده ما يقربه إليه، ويزيده محبة له وكرامة عليه، وما يبعده منه، ويسخطهعليه، ويسقطه من عينه.
وللمحبوب عدو؛ هو أبغضخلقه إليه، قد جاهره بالعداوة، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له، دونوليهم ومعبودهم الحق، واستقطع عباده، واتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم،وكانوا أعداء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه، ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته،ويسبونه، ويكذبونه، ويفتنون أولياءه، ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجهدون على إعدامهممن الوجود، وإقامة الدولة لهم، ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه، وتبديله بكل ما يسخطهويكرهه. فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم ومالهم، وحذره موالاتهم والدخول فيزمرتهم والكون معهم.
وأخبره في عهده: أنه أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأرحمالراحمين. وأنه سبقت رحمته غضبه، وحلمه عقوبته، وعفوه مؤاخذته، وأنه قد أفاض علىخلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر، وأنالفضل كله بيده، والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه: أن يجود على عباده،ويوسعهم فضلا، ويغمرهم إحساناً وجوداً، ويتم عليهم نعمته، ويضاعف لديهم منته،ويتعرف إليهم بأوصافه وأسمائه، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.
فهو الجواد لذاته، وجود كل جواد خلقه الله ويخلقه أبداً: أقلمن ذرة بالقياس إلى جوده. فليس الجواد على الإطلاق إلا هو، وجود كل جواد فمن جوده،ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطر ببال الخلق،أو يدور في أوهامهم، وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاهويأخذه، أحوج ما هو إليه أعظم ما كان قدراً. فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطيةوالنفع بها، فما الظن بفرح المعطي؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرحهذا بما يأخذه، ولله المثل الأعلى. إذ هذا شأن الجواد من الخلق؛ فإنه يحصل له من الفرح والسروروالابتهاج واللذة بعطائه وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذهعن لذة المعطي وابتهاجه وسروره، هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه، وفقره إليه، وعدموثوقه باستخلاف مثله، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه، والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومنهو دونه، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح. فما الظن بمن تقدّس وتنزّه عن ذلك كله،ولو أن أهل سماواته وأرضه، وأول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنهم، ورطبهم ويابسهم، قاموافي صعيد واحد فسألوه، فأعطى كل واحد ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة.
وهو الجواد لذاته، كما أنه الحي لذاته، العليم لذاته، السميعالبصير لذاته، فجوده العالي من لوازم ذاته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمةأحب إليه من العقوبة، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع.
فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه، وأعد له أنواع كرامته،وفضّله على غيره، وجعله محل معرفته، وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله، واعتنىبأمره ولم يهمله ولم يتركه سدى، فتعرض لغضبه، وارتكب مساخطه، وما يكرهه، وأبِقَمنه، ووالى عدوه، وظاهره عليه، وتحيز إليه، وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه، التي هيأحب شيء إليه، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام؛ فقد استدعى من الجواد الكريمخلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه،وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطائه،فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لوازم ذاته منالجود والإحسان.
فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة، إذا انقلب آبقاًشارداً، راداً لكرامته، مائلا عنه إلى عدوه، مع شدة حاجته إليه، وعدم استغنائه عنهطرفة عين. فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته، ناسيا لسيده، منهمكا فيموافقة عدوه، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله، إذ عرضت له فكرة، فتذكر بر سيدهوعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعرضه عليه، وأنه إنلم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه على أسوأ الأحوال، ففر إلى سيده من بلد عدوه، وجدّفي الهرب إليه حتى وصل إلى بابه، فوضع خده على عتبة بابه، وتوسد ثرى أعتابه،متذللاً متضرعاً، خاشعاً باكياً، آسفا، يتملق سيده ويسترحمه، ويستعطفه ويعتذرإليه، قد ألقى بيده إليه، واستسلم له، وأعطاه قياده، وألقى إليهزمامه، فعلم سيده ما في قلبه، فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه، ومكان الشدة عليهرحمة به، وأبدله بالعقوبة عفواً وبالمنع عطاءً، وبالمؤاخذة حلماً، فاستدعى بالتوبةوالرجوع من سيده ما هو أهله، وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فكيف يكونفرح سيده به؟ وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعاً واختياراً، وراجع ما يحبه سيده منهبرضاه، وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحبُّ إلى سيده من طريق الغضبوالانتقام والعقوبة.
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال: قال رسولالله صلى الله عليه وسلم : «لَلّهُ أشدُّ فْرَحا بتوبةِ عبده - حين يَتُوبُ إليه - من أحدِكم كانعلى راحلته بأرضٍ فلاةٍ فَانْفَلَتتْ منه، وعليها طعامُه وشرابهُ فَأَيسَ منها،فأتَى شَجرة فاضطَجَع في ظِلِّها قد أيسَ من راحلته فبينا هو كذلك، إذا هو بهاقائمةٌ عنده، فأخذ بخِطامِها، ثم قال من شِدَّة الفرح: "اللهم أنت عَبْديوأنا ربكَ"، أخطأ من شدة الفرح» هذا لفظ مسلم
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين: أنه حصل له شرود وإباقمن سيده، فرأى في بعض السكك باباً قد فُتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفهتطرده، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكراًفلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه، ولا من يؤيه غير والدته، فرجع مكسورالقلب حزيناً، فوجد الباب مرتجاً، فتوسده؛ ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجتأمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكي، وتقول: يا ولدي، أين تذهب عني؟ ومن يؤيك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني، ولا تحملنيبمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وإرادتي الخير لك،ثم أخذته ودخلت. فتأمل قول الأم: "لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليهمن الرحمة والشفقة".
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: « لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها» وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة اللهالتي وسعت كل شيء ؟
فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه، فإذاتاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به. فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذاالواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها. ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة، وتدق عن إدراكه الأذهان. نقله لكم بشيء من الاختصار والتصرف www.aborashed.com من كتاب مدارج السالكين - منزلةالتوبة ( 1 / 186 )
| |
|